البيئة

رحلة مع رائد علم البيئة في ذكرى رحيله: القصاص وتغيرات المناخ، نظرة علمية ثاقبة لمستقبل كوكب الأرض – الجزء الأول – آراء ومقالات

رحلة عطاء: ذكرى رحيل أ.د. محمد عبد الفتاح القصاص.. حكاية عالم نذر حياته لحماية البيئة ومكافحة التصحر

في 21 مارس من كل عام، نحتفل بذكرى رحيل أ.د. محمد عبد الفتاح القصاص، رائد علم البيئة وصاحب الإنجازات الخالدة، لكن ذكراه ما زالت خالدة في قلوب محبيه وتلاميذه، ومسيرته العلمية النيرة تُلهم الأجيال الجديدة.تذخر بلادنا العربية بكنوز علمية بارزة على مدار تاريخها الحافل الذي قارب المئة عام، وتعدّ كلية العلوم بجامعة القاهرة من أهم الكليات العلمية في مصر والعالم العربي، حيث تمتلك سجلاً حافلاً بالإنجازات العلمية والبحثية في مختلف المجالات العلمية، ولقد ترك العديد منهم من العلماء الراحلين بصمات عالمية في مجال تخصصاتهم الدقيقة، ولازالت الهيئات الدولية والمراجع العلمية والباحثين يذكرون بصماتهم الواضحة عبر التاريخ.ومن بين العلماء الذين تركوا بصماتهم الواضحة في تاريخ الكلية والعلم المصري والعربي بشكل عام هو الراحل الأستاذ الدكتور محمد عبد الفتاح القصاص، وهو عالم مصري بارز ورائد في مجال علم البيئة ودراسة التغيرات المناخية، وهو أول من أنذر من مخاطر تغير المناخ على مصر وشمال أفريقيا، وهو ما يعتبر إنجازاً علمياً كبيراً وغير مسبوق في تاريخ العلم المصري والعربي. وهو من أوائل الأصوات المحذرة في هذا المجال ودعا إلى العمل العاجل لإنقاذ المناخ. ولديه سجل حافل بالمبادرات والجهود الرائدة للتعريف بالقضايا البيئية والمناخية وإيجاد حلول لها.ويعد الأستاذ الدكتور القصاص من أبرز رواد حركة حماية البيئة في مصر والعالم العربي، ويعتبر أحد رواد ومبوبي حركة حماية البيئة ودراسات تغير المناخ في مصر والعالم العربي وناضل لإنشاء عدة محميات طبيعية في مصر، منها محمية في الصحراء الغربية ومحمية شبه جزيرة سيناء، وكان من مؤسسي جمعية حماية البيئة في مصر، ورحل عن عالمنا عام 2012 عن عمر ناهز 91 عاما، ولكن بصماته الواضحة في مجال العلوم والبحث العلمي لا تزال حتى اليوم حاضرة وملموسة في مجالات عدة، ومنها مجال تغير المناخ.وجاء ختام فعاليات الدورة الـ 28 لمؤتمر الأمم المتحدة للمناخ في الإمارات العربية المتحدة مكملا لمسيرة ممتدة عبر أعوام طويلة، حاول فيها العالم إرجاع الطبيعة لفطرتها النقية. وكان الأستاذ الدكتور محمد عبد الفتاح القصاص من الساعين للإنقاذ والحل، مع زميله وصديقه الأستاذ الدكتور مصطفى كمال طلبة وذلك قبل أعوام طوال، حيث يمتلك العالمان المصريان سجلا حافلا بالجهود السباقة لتعريف العديد من الأزمات البيئية والمناخية، فضلا عن كونهما من أصحاب أوائل الأصوات المحذرة من مظاهر أزمة التغيرات المناخية، وكان شغلهما الشاغل هو إيجاد حلول قوية لإنقاذ المناخ من براثن التلوث بجميع أشكاله.وفي هذه المقالة، نغوص في رحلة عطاء هذا العالم الكبير، ونستذكر إنجازاته الرائدة في مجال حماية البيئة ومكافحة التصحر، ونُسلّط الضوء على بعض إنجازاته، ونُحيي ذكراه من خلال الاحتفالية التي تقام هذا العام.تاريخ علمي حافلمنذ صغره، نمت لدى القصاص عاطفة حبّ الطبيعة، وبدأ رحلته العلمية التي قادته إلى العالمية. فقد نال شهادة الدكتوراه في علم النبات من جامعة القاهرة، وبدأ مسيرته المهنية كأستاذٍ مُلهمٍ، تخرج على يديه العديد من العلماء البارزين.نشأ القصاص في قرية برج البرلس بمحافظة كفر الشيخ، قرية تقع في شمال مصر، بدأ حياته التعليمية في كُتاب القرية حيث حفظ القرآن الكريم كاملا. ثم التحق بمدرسة ابتدائية في الإسكندرية. انتقل بعدها إلى القاهرة لمتابعة تعليمه. تخرج من كلية العلوم جامعة القاهرة عام 1944 بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف. حصل على درجة الماجستير عام 1947 والدكتوراه عام 1950 من جامعة كامبردج ببريطانيا. عمل أستاذا بقسم النبات بكلية العلوم جامعة القاهرة منذ عام 1944. تولى مناصب قيادية مثل رئيس قسم النبات ومديرا عاما مساعدا للعلوم بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. انتخب عضوا في مجلس الشورى عام 1980. ترأس الاتحاد الدولي لصون الطبيعة والموارد الطبيعية (IUCN) من 1978 إلى 1984، وهو أول مسؤول من العالم الثالث يشغل هذا المنصب.أسس أ.د. القصاص مركز بحوث الصحراء عام 1956، ومركز الدراسات البيئية بجامعة القاهرة عام 1973. وشارك في تأسيس برنامج الأمم المتحدة للبيئة عام 1972. وأثْرَى أ.د. القصاص المكتبة العربية بالعديد من الكتب العلمية، مثل: “النيل في خطر”، “موسوعة التصحر”، “على خطى العشرين”.نال أ.د. القصاص العديد من الجوائز الدولية، منها جائزة جولدمان للبيئة عام 1991، وجائزة مبارك للعلوم والبيئة عام 2006.خطى في القرن العشرين وما بعدهيوثق كتاب القصاص “خطى في القرن العشرين وما بعده”، والذي يقع في 214 صفحة كبيرة القطع، المسيرة الشخصية والعلمية للعالم المرموق المولود في 6 يوليو سنة 1921 بقرية «برج البرلس»، التابعة لمركز بلطيم بمحافظة كفر الشيخ، وهي قرية تقع في أقصى شمال مصر ، وهو ثاني اثني عشر طفلا رزق بهم أبوه الذي كان صيادا وصانع مراكب للصيد، وظلت حتى العام 1940 من دون مدرسة ابتدائية، لكنه تمكن من شق طريقه إلى أن تخرج في عام 1944 في كلية العلوم بجامعة فؤاد الأول “القاهرة الآن” والتي حصل منها على الماجستير في علم بيئة النبات العام 1947، ثم نال الدكتوراه في علم بيئة النبات العام 1950 من جامعة كامبردج.التحق القصاص، وهو في الرابعة من عمره، بكُتاب القرية، حيث حفظ القرآن الكريم كاملاً، قبل أن يرسله والده إلى الإسكندرية، ليعيش في بيت عمه، ويتلقى العلم في مدرسة «طاهر بك» الابتدائية، وظهرت هوايته منذ سن مبكرة، في جمع أوراق النباتات المختلفة، وكان يضعها في كراسة خاصة، ثم انتقل للقاهرة، حيث أكمل دراسته في مدرسة العباسية الثانوية.

وفي عام 1944 تخرج القصاص، من كلية العلوم بجامعة فؤاد الأول، جامعة القاهرة حالياً، بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، وبعد 3 سنوات حصل على درجة الماجستير، وفي عام 1950 حصل على دكتوراه الفلسفة في العلوم البيئية من جامعة «كامبردج» في بريطانيا. ورحل العالم الكبير عن عالمنا في 21 مارس 2012، متأثراً بإصابته بمرض السرطان.تدرج العالم الراحل في وظائف هيئة التدريس بقسم النباتات بكلية العلوم جامعة القاهرة، من معيد سنة 1944، وأستاذ كرسي النبات التطبيقي سنة 1965، وأستاذ متفرغ سنة 1981، وخلال الفترة بين عامي 1964 و1968، تمت إعارته للعمل كرئيس لقسم النبات بكلية العلوم في جامعة الخرطوم، ثم عمل مديراً عاماً مساعداً للعلوم بالمنظمة العربية للتربية والثقافة بين عامي 1972 و1976، وتم تعيينه عضواً في مجلس الشورى سنة 1980.شغل عالم النباتات البرية، الذي عُرف بـ«أبو البيئة في مصر»، عضوية العديد من الهيئات العلمية والمنظمات البيئية الدولية، وشارك القصاص في محافل دولية كثيرة إلى أن أصبح أول مسؤول من العالم الثالث يترأس الاتحاد الدولي لصون الطبيعة والموارد الطبيعية(IUCN)، الذي تولى رئاسته في الفترة من 1978 إلى 1984، كما تولى رئاسة المجمع العلمي المصري، ورئاسة نادي روما، كما كان رئيساً للأكاديمية الوطنية الهندسية للعلوم والآداب. (الاتحاد الدولي لصون الطبيعة) بين عامي 1978 و1984.

حصل الدكتور محمد القصاص على ثلاث درجات دكتوراه فخرية، من جامعة السويد للعلوم والزراعة عام 1985، ومن الجامعة الأمريكية عام 1986، ومن جامعة أسيوط عام 1994، كما حصل على العديد من الأوسمة والجوائز، أهمها وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1959، وسام الجمهورية من الطبقة الثانية سنة 1978، وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى عامي 1981 و1983، وجائزة الدولة التقديرية سنة 1982.لم تقتصر الأوسمة والجوائز التي حصل عليها «عاشق النباتات البرية» على مصر فقط، بل نال تقديراً دولياً بحصوله على وسام «السلم التعليمي الذهبي» من السودان سنة 1978، وجائزة الأمم المتحدة للبيئة سنة 1978، ووسام «الآرك الذهبي» برتبة فارس من هولندا سنة 1981، ووسام «النجم القطبي» برتبة فارس من السويد سنة 1998، والوسام الذهبي للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم 1978، وجائزة زايد الدولية للبيئة سنة 2001، وأكثر من عشر جوائز وأوسمة من مصر والسودان والإمارات والسويد وهولندا. كما نال جائزة الأمم المتحدة للبيئة عام 1978. وتوجت رحلة بجائزة مبارك في العلوم، وهي أرفع الجوائز في البلاد وقبلها حصل على جائزة الدولة التقديرية.

الأستاذ الدكتور محمد عبد الفتاح القصاص يتسلم وسام النجم القطبي للعلم والتفاني في أداء الواجب من السفير السويدي بالقاهرة

وكتب القصاص في تقديمه لكتابه “خطى في القرن العشرين وما بعده”، تحت عنوان “لماذا هذا الكتاب..”، ما قاله للأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كورت فالدهايم في كبرى قاعات الأمم المتحدة في نيويورك في الخامس من حزيران (يونيو) العام 1978 “يوم البيئة العالمي”، بمناسبة حصوله هو والمستكشف النرويجي ثور هايردال (1914-2002) على جائزة الأمم المتحدة للبيئة..“إن مغزى تكريمي هو رسالة من الأمم المتحدة -بما تمثله وترمز إليه- إلى الأطفال (الذين) يولدون بالآلاف كل يوم في القرى النائية.. في الأقطار الفقيرة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. كأنك يا سيدي الامين العام للأمم المتحدة تمسح على رأس كل طفل وتقول له.. انهض. هذا واحد مثلك لم يمنعه المهد الخشن ولا العيش المضيق عليه ولا المسافة البعيدة بين القرية والمدرسة من أن يشق طريقه ليدخل مبنى الأمم المتحدة هذا الصباح مرفوع الرأس ليتلقى اعتراف المجتمع الدولي به، وبإسهاماته في المعارف العلمية والجهود الدولية”، مضيفا أن الكتاب رسالة تمنح الأطفال الأمل.”القصاص وكلية العلوم جامعة القاهرةاستطاع القصاص ولما يزل طالبا في جامعة القاهرة الإلمام بتفاصيل جانب هام من الثروة النباتية المصرية. وجعل منها مادة أطروحة دكتوراه نالها من جامعة كامبريدج البريطانية في منتصف القرن الماضي.وكان الدكتور محمد القصاص من ضمن العلماء الذين ساهموا في إثراء كلية العلوم بجامعة القاهرة بأنواع نادرة من النباتات، وقام بإهداء جميع الكتب في مكتبته الخاصة إلى مكتبة الكلية، وأنشأ «القصاص» أول مدرسة علمية في مجال بحوث البيئة الصحراوية، تخرج منها عشرات ممن حصلوا على درجتي الماجستير والدكتوراه في مصر والبلدان العربية الأخرى، وتعتبر من مدارس الريادة في هذا المجال على مستوى العالم، وشارك في وضع خرائط البيئة بحوض البحر الأبيض المتوسط، وساهم مع عدد من العلماء، في إثراء معشبة كلية العلوم بالقاهرة بالنباتات، وقام بإهداء جميع الكتب في مكتبته إلى مكتبة الكلية، وتضم العديد من الدوريات العلمية، التي تشمل كل القضايا المتعلقة بالبيئة والنباتات البرية.كما أثري القصاص المكتبة العلمية العربية بالعديد من المؤلفات في علوم النباتات والبيئة، أشهرها «النيل في خطر»، وموسوعة جغرافية باسم «التصحر»، وكتاب «على خطى العشرين»، الذي يتحدث فيه عن سيرته الذاتية.يعد القصاص مهندس مفهوم التصحر في العالم العربي ورائداً في طرح حلول المشكلة طوال عشرات السنين والذي نمى معارفه البيئية على نحو أهلّه فعلا ليكون موسوعة في علوم البيئة. كل الذين زاروا محمد عبد الفتاح القصاص في السنوات الأخيرة له في مكتبه بكلية العلوم في جامعة القاهرة أدهشتهم لدى هذا العالم صفات كثيرة كان يتحلى بها. ومن أهم هذه صفاته حيويته المتقدة رغم سنه المتقدمة. فقد كان نشطا باستمرار ودقيقا جدا في تعامله مع المعلومة المتصلة بالمشاكل البيئية المطروحة بحدة في العالم العربي وفي مقدمتها مشكلة التصحر.ولقد شرفت بأنني تتلمذت على يديه، فقد درس لي أكثر من مقرر في سنوات البكالوريوس الثالثة والرابعة، وكنت الطالب الوحيد لديه في مقرر دراسي بتمهيدي الماجستير في مجال الخلية والوراثة بقسم النبات والميكروبيولوجي بجامعة القاهرة، وكما يقول الدكتور سمير إبراهيم غبّور الأستاذ المتفرغ في قسم الموارد الطبيعية في معهد البحوث والدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة عنه، فهو رجل لم يكن لديه طموحات مادية، ولا رغبات شهرة، ولا أحقاد نحو أي كان. وكانت طموحاته تنحصر في خدمة وطنه والبشرية جمعاء. ورغباته هي معاونة من حوله، ورعايتهم، و”فتح أبواب يكبر الناس منها” كما يحلو له أن يقول.كان القصاص ينصح طلاب العلم من العرب وغير العرب دوما بالمسارعة على الأقل إلى توثيق الثروة النباتية الأصيلة بدقة لاسيما في المنطقة العربية. وكان يردد على مسامع زواره أن هذه الثروة مهددة اليوم بظاهرة التغيرات المناخية القصوى وبخاصة عبر فترات الجفاف التي تطول أكثر من اللزوم. وما يذكره مسئولو المنظمات الدولية والإقليمية التي تعنى بالبيئة والتي عمل فيها القصاص أو أسهم في تطوير أدائها أنه كان غزير الإنتاج وثاقب الرؤية ومثلا في قمة التواضع. ومن هذه المؤسسات التي ترك فيها الراحل بصماته الاتحاد الدولي لصون الطبيعة.ولقد قمت بتأسيس مجموعة على الفيس بوك كرابطة تجمع طلاب ومحبي الراحل العظيم يوم 21 مارس 2012م، للمساهمة في تعريف المجتمع المصري والعربي والعالمي به تخليدا لذكراه، ومن الممكن الاطلاع على الموقع الخاص به على شبكة الإنترنت لمعرفة المزيد من إنجازاته العالمية.

د. طارق قابيل*كاتب ومترجم ومحرر علمي، أكاديمي، عضو هيئة التدريس -قسم التقنية الحيوية – كلية العلوم – جامعة القاهرة، مصر / مقرر لجنة الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية والدراسات الاستراتيجية ومؤشرات العلوم والتكنولوجي، وزميل أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي – مصر / عضو المجموعة الاستشارية العربية للعلوم والتكنولوجيا، التابعة للمكتب الإقليمي للأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث للدول العربية.

http://scholar.cu.edu.eg/tkapiel[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى